Post

العنف المصاحب لتغيّر المناخ في مصر

Article 29 Apr 2015 mika

ميكا مينيو بالويللو

في خضم الحركات الثورية في السنوات الأخيرة، ليس من السهل ألا نلاحظ أن تغير المناخ قد بدأ يغير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ،حيث نعيش، تغييراً جذرياً. هذا التحول التدريجي، الذي يصعب تجنبه، يهدد بنزوح الملايين من البشر، إن لم يكن عشرات الملايين، و بتغيير شكل المنطقة بشكل قد يصعب التعرف عليها. و كالمعتاد، سيسمح رأس المال لطبقات النخبة بالاستفادة من الدمار الذي سيلحق بالأغلبية الفقيرة، و لكن مستقبلا يسوده العدل هو مستقبل ما زال ممكنا، إذا ما كافحنا من أجله.

الصيف الذي جاء مبكرًا في عام 2014 ذكرنا بالعنف الذي قد يسببه تغير المناخ. درجات الحرارة المرتفعة تقتل، حتى لو كان الطقس الحار قد يبدو طبيعياً بالنسبة للمنطقة. موجات الحر مثل تلك التي جاءت في أيار/ مايو 2014، عندما وصلت درجات الحرارة في القاهرة إلى ثلاثة وأربعين درجة مئوية، قد تبدو مزعجة و لكن غير ضارة. و لكن موجه حارة في بريطانيا قتلت 760 شخصا خلال تسعة أيام في صيف عام 2013. و كانت أعلى درجة حرارة شهدتها لندن ثلاثة وثلاثين درجة. كم من الناس سيموتون في مصر كل صيف، حيث درجات الحرارة أعلى بكثير و النظام الصحي أضعف بكثير؟ لا توجد أي إحصاءات يمكن الرجوع إليها، و نحن لا نعرف أسماء الذين قضوا نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، حيث أن أكثرهم يعيش في الشارع و ينحدر من الطبقات الاجتماعية الدنيا.

إن الأمر يتعلق بما هو أكثر بكثير من ظواهر جوية عنيفة. فبين عامي 2006 و 2010، دمر الجفاف الشديد في شرق سوريا معيشة 800 ألف شخص وقتلت خمسة وثمانين في المئة من الثروة الحيوانية. قرى بأكملها، وصل عددها إلى 160 قرية أفرغت من سكانها قبل عام 2011. و أيضا في مصر، أجبر ارتفاع منسوب مياه البحر في دلتا النيل أسر المزارعين على إخلاء منازلهم مراراً وتكراراً في السنوات الأخيرة. في واحدة من القرى الساحلية قرب رشيد ، والتي زرتها في نيسان/أبريل عام 2014، تحدث السكان عن اضطرارهم للانتقال ثلاث مرات بعد انجراف أراضيهم.

إن ما يحدث ليس “الطبيعة تنتقم لنفسها”. العنف الطبقي لتغير المناخ تمت بلورته بحيث يتحمل الفقراء العبء نيابة عن الفئات صاحبة الامتيازات. نحن لا نتعرف على الوحشية الكامنة في تغير المناخ حيث أن الخطاب المهيمن لا يظهرها. يتم تحويل المسؤولية و تحميلها على الكوارث “الطبيعية” و الشكل المادي للأرض. لكن لم يكن هناك داعٍ لأن يموت أحدٌ في القاهرة عندما انخفضت درجة الحرارة في كانون الأول/ ديسمبر، أو عندما ارتفعت في أيار/مايو. جاءت الوفيات نتيجة قرارات اتخذت في لندن و بروكسل و واشنطن دي سي و دبي، و علي المستوي المحلّي في لاظوغولي و مصر الجديدة، و القطامية. كانت هذه خيارات اتخذت للحفاظ على حرق الوقود الأحفوري، و حماية الأغنياء بدلًا من الفقراء.

في مصر والدول المجاورة لها، يعتمد البقاء على التكيف مع موجات جديدة من الجفاف و العواصف والفيضانات وتلف المحاصيل. و يروج الأكاديميون والمؤسسات الحكومية والسلطات الرسمية لخطط و حلول معظمها يقدم القليل جداً و بعد فوات الأوان، أو قد يهدد بالمزيد من الدمار. هذه الحلول و التدخلات ليست محايدة من الناحية السياسية أو الإجتماعية. بناء الجدران علي السواحل البحرية لحماية المنتجعات السياحية، و توسيع الزراعة كثيفة رأس المال يعيدان التأكيد على المصالح الخاصة للشركات. تخلق مسارات التكيف هذه فضاءات جديدة لتراكم و سيطرة النخبة على الأراضي والمياه، والطاقة. “فالحلول” القائمة على السوق تزيد من قوة الاستغلال الذي يتعرض له الفقراء بالفعل. ومع ذلك، فإن أكثر الأدبيات ذات الصلة لا تشكك في هياكل الاقتصاد و القوة التي تشكل كيفيتنا للتكيف.

يدعو هذا المقال إلى عمل تحقيق دقيق في دور البعد الطبقي في كلٍ من آثار تغير المناخ، و طرق تكيفنا معها. نحن بحاجة إلى التعرف على محاولات استخدام تغير المناخ للتربّح و كوسيلة لترسيخ عدم المساواة علي حقيقتهما. حجم الأزمة يعني أننا بحاجة إلى خروج جذري عن هياكل السلطة الاستبدادية والنيو- ليبرالية القائمة. الحاجة الملحة تجعل الأمر يبدو كما لو أننا لا نملك الوقت لتغيير النظام، ولكن الاعتماد على هؤلاء الذين يحكمون سيرجعنا خطوتين إلى الوراء مع كل خطوة إلى الأمام. بدلا من ذلك، يتعين علينا أن ننظر إلى الحركات الاجتماعية والمجتمعات المواجهة التي تقاوم، و بناء مسارات ديمقراطية للبقاء في عالم أكثر دفئا.

دلتا نيل مدمّر

من المقرر أن يعيد تغير المناخ تشكيل الكوكب بشكل جذري. سيتم إنفاق مئات المليارات في محاولة للتكيف و إعادة تشكيل المناظر الطبيعية المادية و العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية. فكيف سيكون شكل هذا التحول في مصر؟

المقترحات و التحليلات الحالية محدودة و بطيئة و محافظة جداً لمواكبة ما يجري. مع بعض الاستثناءات المهمة، تأخذ الكتابات الموجودة نهج فوقي و تؤكد على عدسة “الأمن”. هل ستشكل ندرة المياه تهديدا للدولة؟ هل ستقوض الهجرة الأمن؟ ما هي الحلول التكنولوجية التي ستضمن   استمرار زراعة الأراضي؟ كم من المال سيضيع من صناعة السياحة؟  وكما فعل المستشارون التنمويون على مدى عقود، يضع “خبراء” اليوم اللوم في ضعف مصر على جغرافيا البلد الطبيعية: فهي بلد صحراوي مع مصدر رئيسي واحد للمياه العذبة، و دلتا مسطحة آيلة للغرق يقطنها عدد كبير من السكان. وهذا يعني أنه يمكن تجنب التهديد باستخدام التكنولوجيا، من دون إحداث تغييرات في النظام الاجتماعي.

فأحد النصوص الأولى ذات المستوى الرفيع لاستكشاف السياق السياسي لتغير المناخ في المنطقة الناطقة بالعربية تطلب منا أن نثق بالنخب المحلية و المؤسسات النيو- ليبرالية في تعريف وتشكيل الأشكال التي سيأخذها التكيف. تم نشر ورقة جون ووتربري البحثية بعنوان “الاقتصاد السياسي لتغير المناخ في المنطقة العربية” في عام 2013 ضمن تقرير التنمية البشرية العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

التكيف لمن؟

بعض الناس هم أكثر عرضة للتأثر بتغير المناخ عن غيرهم. و هذا الأمر مقبول على نطاق واسع، ولكن يتم تجاهل الأسباب الكامنة وراء ذلك من قبل واضعي السياسات  في مصر. الضعف و المرونة ليسا عشوائيين و ليسا “طبيعيين”، و لكنهما نتاج اجتماعي لعقود و قرون من التحدي و التفاعل داخل و بين السكان المحليين، و الدولة بتنوع أشكالها، و القوى الرأسمالية و الاستعمارية، فضلا عن الجغرافيا الطبيعية.

في دلتا النيل، تتشكل كيفية تأثر الناس من خلال تجربتهم الموروثة في نزع الملكية، و سرقة الأراضي، والقمع. وهذه الأمور تم تشريعها خلال التوسع في زراعة القطن وخلق فئة من العمال غير مالكة للأراضي أثناء الاحتلال البريطاني، أو بعد قانون الإصلاح الزراعي لعام 1992 والذي سنه الرئيس المخلوع حسني مبارك، القانون الذي أعطي سيطرة الأراضي إلي كبار ملاك الأراضي و أدى إلى طرد مئات الآلاف من صغار المزارعين من أراضيهم. وقد أشرف على كلتا العمليتين اللتين تمتا تحت مسمى “التنمية” و”الحداثة” ائتلافات مختلفة من الشركات المحلية، والبيروقراطية، والقادة العسكريين. وقد عمل هؤلاء في تحالف مع رأس المال الدولي والقوى (النيو) استعمارية سواء تلك المتمثلة بالإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، أو وكالات الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي في أواخر القرن العشرين.

هؤلاء الذين يضعون خطط الاستجابة لظاهرة الاحتباس الحراري لا يعترفون بهذه الجذور التاريخية لظلم المناخ. بدلا من ذلك، فإن الدرس الذي استفاد منه المسؤولون الحكوميون و بعض الأكاديميين من التاريخ، هو أن سياسات التكيف الهيكلي التي طبقت في الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي أظهرت الاستخدام الفعال للضغط الخارجي. و الفكرة هي تكرار هذه العملية. ستعمل النخب المحلية على توسيع الزراعة كثيفة رأس المال الموجهة للتصدير و تجارة الكربون الإقليمية، بإرشاد و بضغط من خبراء من الاتحاد الأوروبي، و البنك الدولي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. و لكن هذه البنوك العامة نفسها تمول الصناديق الخاصة المتحايلة على الضرائب وتشجع على برامج خصخصة الخدمات الأساسية مثل المياه و النقل، و تدعم الوقود الاحفوري الملوث بما في ذلك التنقيب عن النفط في مصر ومشاريع التكسير الهيدروليكي المحتملة في تونس. وفي الوقت نفسه يعمل الاتحاد الأوروبي على ضمان الإستحواذ على الغاز من خلال توسيع خطوط الأنابيب في آسيا الوسطى و عبر الصحراء، في حين يُمنع الناس من اتباع نفس الطرق و تُعسكر البحار المحيطة، مما يتسبب في غرق الآلاف من المهاجرين في البحر المتوسط ​​كل عام.

المؤسسات المصرية هي جزء من هذه العملية. معهد البحوث الساحلية، و مقره الإسكندرية، أصبح يعطي الأولوية لمقترحات التكيف التي تحمي السياحة و المصالح التجارية الكبيرة. و ينظر الى جذب رؤوس الأموال على أنه من الأهمية بمكان بحيث يهوّن موظفو المعهد من خطر تغير المناخ قائلين: “إذا قلنا أن لدينا مشكلة كبيرة سيقوم المستثمرون بسحب أموالهم و يضعوها في مكان آخر و لن يطورا بذلك المنطقة الساحلية، وهذا ضد سياساتنا. نحن بحاجة إلى تطوير هذه المناطق، ونحن بحاجة إلى أشخاص مهتمين بها و لا نريد أن يساورهم الخوف في أي وقت من الأوقات.”

هذا النهج في التكيف في مصر يتفق مع العقيدة السائدة بين مستشاري السياسات المناخية الذين يتقاضون رواتب عالية و الذين يزعمون بأننا سنتمكن من    التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري من خلال تعزيز السياسات القائمة. و يقولون أن حلول “الفوز المتبادل” ستسمح بالنمو المستمر و التقليل من المخاطر السياسية. الأنباء السيئة عن حق يتم تجاهلها بإعتبارها “مثيرة للقلق” الكثير، و يجعلوننا نعتقد أن مستقبل بكربون منخفض يبعد مجرد خطوة تغيير واحدة. فيمكن للإصلاح التكنولوجي و أدوات السوق تحييد هذا التهديد. و هذه مرحلة جديدة في ما تسميه راي بوش “الاعتداء الأيديولوجي على الحكومات الإفريقية بما يضمن خضوعها للإصلاح السياسي الخارجي و التحرير الاقتصادي.”

يفشل هؤلاء الذين يشكلون سبل التكيف في المنطقة غالباً في طرح السؤال التالي: “التكيف لمن؟” خطط التكيف ليست تدخلات تكنولوجية محايدة سياسيا أو اجتماعيا. تدابير التكيف مع ارتفاع مستوى سطح البحر في دلتا النيل يمكن أن تشمل إعادة توزيع الأراضي لأولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها، أو الإخلاء القسري الجماعي لصغار المزارعين ليحل محلهم الصناعات الزراعية التي من المفترض أن تكون فائقة الكفاءة. بناء الأسوار البحرية لحماية المنتجعات السياحية و البنية التحتية للنفط، أم بناء الأسوار البحرية لحماية السكان و لحمابة الإنتاج الغذائي المحلي. إعطاء الأولوية لإمدادات المياه للقادرين علي الدفع أكثر، أم توفير توزيعاً أكثر عدلًا للمياه. باختلاف ايديولوجية المؤسسة التي تقدم المقترحات، يمكن لمقترحات التكيف أن تتراوح ما بين تقديم آليات “السوق” التي تعطي الأولوية للشركات الكبيرة، إلى تقديم البرامج الجماعية من الدعم المتبادل. قد يجلب التكيف النجاح لفئة اجتماعية ما و الفشل لفئة أخرى. هل سيكون التكيف عادلاً؟ مربحاً؟ ديمقراطياً؟ فاشياً؟

إختلالات كبرى في الحضارة

يرى الكتاب الرئيسيون في تغير المناخ بأن علينا ألا نتحدى الهياكل الاجتماعية أو الاقتصادية الحالية في التعامل مع تغير المناخ. و يقولون أن علينا أن نقبل الحاضر السلطوي النيو- ليبرالي لأنه لا يوجد هناك أي بديل آخر.

في الواقع، فإن التغيير الجذري للعلاقات الحالية ليس فقط مبرر، و لكنه أمر لا مفر منه. فوفقا لدراسة حديثة نشرت في مجلة “Nature Climate Change” (تغير مناخ الطبيعة)، فإنه لم يعد ممكنا “ضمن القيود السياسية و الاقتصادية التقليدية” منع ارتفاع درجات حرارة الأرض درجتين مئويتين. و تعرّف معظم الحكومات الدرجتين المئويتين بأنها العتبة التي يصبح بعدها الهرب من تغير المناخ أمر مستحيل. حتى عند هاتين الدرجتين، هناك تهديد بحصول “اختلالات كبرى في الحضارة.”

ويرى المؤلفان، كيفن اندرسون و أليس بوز من مركز تيندال لبحوث تغير المناخ، أن الصمت على مخاطر النمو المستمر يرجع إلى أن “مخالب الاقتصاد تتغلغل في علم المناخ.” و يقول العالمان أن لهجة الخطاب المريحة و المستعملة بسذاجة في العلوم و السياسة المتفائلة يحجب “الإنقطاع بين العلم (المادي و الإجتماعي) أساس المناخ، والهيمنة الاقتصادية. إنهم يصفون استحالة خفض الانبعاثات بشكل كاف في ظل النظام الاقتصادي القائم، و لكنه من الصعب أيضاً تحقيق تكيف عادل دون تغيير صانعي القرار.

أصبح تغير المناخ اليوم مدمراً للمجتمعات في كل مكان، و هو يقتل 300 ألف شخص سنويا. إلا أن 99% من الضحايا يسقطون في جنوب الكرة الأرضية. في مصر، حيث الطقس أكثر دفئاً و هذا يعني زحف الأمراض، لأن المياه و مسببات الأمراض التي تنقلها الحشرات تنتشر من المناطق المدارية لتصل إلى الملايين ممن لم يتعرضوا لها من قبل. يواجه المصريون الجوع الوحشي مع تدمير المحاصيل و نفوق الماشية. و تواجه المدن الكبرى الساحلية مثل الإسكندرية احتمال الانغمار. حتى عندما يحدث الجفاف أو الفيضانات في الخارج، يتعرض سكان المدن المحلية التي تعتمد على المواد الغذائية الأساسية المستوردة مثل القمح و الأرز إلى تقلب الأسعار، و يصبحون غير قادرين على إطعام أنفسهم. ارتفاع درجات الحرارة و الإجهاد الناتج عن الحرارة يقتل الآلاف، و خاصة العمال الريفيين الذين لا يستطيعون تجنب العمل الشاق في الشمس. و مع وجود بنية تحتية ضعيفة فهذا يعني التعرض أكثر إلى الجفاف و العواصف، و الفيضانات مع احتمالات إخلاء محدودة.

و باختصار، تقتل الكوارث العديد من الفقراء، و القليل من الأغنياء. تفتقر الطبقات العاملة الريفية و الحضرية إلى الموارد التي تمكنها من البقاء على قيد الحياة، بما في ذلك السكن الآمن، و المياه النظيفة، والقدرة على السفر. لا تتمكن الطبقات الحاكمة فقط من البقاء في مراكزها في المقابل، و لكنها أيضاً تستفيد من حدوث الكوارث، و ذلك باستخدام الفرصة لتشريد السكان و إعادة الإعمار لفرض النظم التي تلبي مصالحها. و من سكنها المكيف المحاط بالأسوار، تستخدم النخبة تجارة الكربون و الأراضي المستولى عليها وتحويل المياه لزيادة سيطرة القطاع الخاص على الموارد التي كانت في السابق موارد عامة: الهواء و الماء و الأرض. و لكن هناك بدائل تسمح بتكيف عادل خارج حدود قاعدة الربح.

النضال من أجل تكيف عادل

الغالبية العظمى من الكتابات عن تغير المناخ في منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا لا يوجد بها أية إشارة إلى قمع أو إلى مقاومة، و هذا يظلم النضالات الشعبية الموجودة بالفعل. لقد كان الفقر والحرمان شديدان في مصر لفترة طويلة، و كانا المحرك الرئيسي لثورة 25 كانون الأول/ يناير. ترددت أصداء هتافات تنادي بـ “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” من ميدان التحرير إلى بورسعيد و أسوان و من كل جانب على مدى ثلاثة سنوات. لم يكن أحد يفكر في المناخ عندما كانت المواجهة مع قوات الأمن المركزي، و لكن الخبز و الحرية و العدالة الاجتماعية هم نقطة انطلاق جيدة لتكيف عادل.

التكيف مع تغير المناخ يعني البقاء في وجهة الشدائد. و لطالما كان المزارعون في مصر مصرّين على البقاء على الرغم من القمع الشديد. و هذا يعني المقاومة السرية و العلنية للمحاولات المتعددة لمالكي الأرض و الدولة لنزع أراضيهم منهم. و كان قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعه مبارك في عام 1992 قد أثار معارضة ضخمة في الريف خلال التسعينات من القرن الماضي، كما حاول المستأجرون الدفاع عن أرزاقهم. لهذا، نظمت “لجان مقاومة قانون رقم 96 ما يصل الى مائتي مؤتمر ريفي لتحدي السلطات، على الرغم من القمع الذي مارسته الدولة و الذي أدى إلى مقتل أكثر من مائة شخص. و خلال الفترة نفسها، رفض المزارعون في دلتا النيل الشمالي أن ينصاعوا لتوجيهات الحكومة المتزايدة. فمن خلال الحد من زراعة المحاصيل الغذائية المحلية مثل الأرز، هدفت الدولة إلى تحويل إمدادات المياه للمحاصيل الصناعية المعدّة للتصدير. و لكن المزارعين زرعوا الكثير من الأرز مما جعل الدولة تحرر 250 الف غرامة و تهدد العديدين بالسجن.

لم تكن هناك هزائم في جميع المعارك. منع الصيادون و المزارعون في جزيرة القرصاية في القاهرة الجيش المصري من مصادرة أراضيهم. اقتحم الجيش أولًا جزيرة النيل بالجرافات و بمائة جندي في عام 2007، في محاولة لطرد سكان القرية جميعهم. قاوم السكان المحليون هذا الاقتحام و عمليات التوغل المتكررة في السنوات التالية، و رفضوا مغادرة منازلهم. أقام الأهالي الحواجز على طول طريق البحر الأعظم و اشتبكوا مع الشرطة، بعد أن قتل الجنود الصياد محمد عبد الموجود الذي يبلغ من العمر عشرين عاما خلال غارة نفذت في فجر يوم من أيام شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2012. و سرعان ما انضم نشطاء من حركة “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين”، و”حركة شباب 6 ابريل”، و”مصرّين” إلى نضال الجزيرة بعد سجن السكان بتهم ملفقة. تمكن أهالي القرصاية من الاحتفاظ بأراضيهم حتى الآن، كما فعل المزارعون في جزيرة الدهب المجاورة، حيث قاوموا أيضاً محاولات مماثلة قامت بها الدولة لسرقة أراضيهم منذ عام 2001.

و نشهد أيضا موجة مقاومة بعد أخرى لمشاريع البنية التحتية المدفوعة باستخراج الوقود الأحفوري و استهلاكه. في عامي 2011 و 2012، تشكل تحالف واسع بين الصيادين و السكان المحليين ضد مصنع أسمدة موبكو بدمياط و اشتبك أعضاءه مع الشرطة و اغلقوا المصنع و أجبروا السلطات على إجراء تحقيقات رسمية. و في قرية فارس قرب أسوان و بعد تضرر أو انهيار سبعين منزلاً عندما قامت شركة دانة للغاز بضخ سوائل و بالحفر لإستخراج النفط في مكان قريب، أغلق أهالي القرية الطريق الصحراوي و دخلوا موقع الحفر. أيضاً المظاهرات و الاعتصامات والاحتجاجات طوال عامي 2011 و 2012 دفعت شركة بريتيش بتروليوم لتجميد بناء محطة الغاز الخاصة بها لأكثر من سنة، قبل أن توافق على عدم البناء في أي مكان بالقرب من البلدة. في أوائل عام 2014، ضمت حملة “مصرّيون ضد الفحم” قواها مع قوى المجتمع في وادي القمر بالإسكندرية في المعركة المستمرة ضد التلوث الناجم عن مصنع لافارج للأسمنت. و في شهر آذار/مارس، هددت اللجنة الشعبية المحلية بالاعتصام بعد أن أعلن وزير الصناعة بأنه قد يسمح لمصانع الأسمنت استخدام الفحم.

في مصر، يقاتل الناس في الصفوف الأمامية في مواجهة تغير المناخ. فإذا رفضنا أن نرى مدى ارتباط هذه النضالات في التعامل مع تغير المناخ و التكيف معه، فسيبدو أن التغيير إذن يأتي فقط من “الخبراء” و بشكل فوقيّ.

تخيل و بناء مستقبل جديد

توجد أسباب عدة لفشلنا الجماعي في منع تغير المناخ الكارثي و في القدرة علي التكيف معه. تشمل العوامل الرئيسية علاقات القوة غير المتكافئة و ضعف شديد في تخيل الحلول. تجسد معظم الأدبيات الخاصة بالموضوع في الدول العربية هذا الفشل، لأنها ما زالت أسيرة الاقتصاديات النيو- ليبرالية التي يهيمن عليها النهج الجيوفيزيائي الذي يتجاهل الصراع. و مع استثناءات قليلة، فتقدم “واقعيتها السياسية” تحليلات مربحة للشركات.

يحثنا أندرسون و بوز على أن نترك “اقتصاديي السوق يتقاتلوا فيما بينهم حول السعر المناسب للكربون- أن نسمح لهم أن يعاودوا عيش يومهم الصعب إذا ما رغبوا في ذلك. العالم يتحرك إلى الأمام، و نحن بحاجة لأن تكون لدينا الجرأة على التفكير بشكل مختلف و تصور مستقبل بديل.” و يتطلب ذلك تخيل مستقبل خارج الإطار النيو- ليبرالي السلطوي و فهم كيفية تقاطع المناخ مع المصالح الطبقية و مع السلطة.

وهذا يتطلب اقتصاد سياسي خاص بتغير المناخ في المنطقة العربية قادر أن يحقق في العلاقات بين صناعات الوقود الأحفوري، و النخب الإقليمية، و رأس المال الدولي. بدأ إسماليان و مالم في هذا العمل من خلال تحدي الصياغة ذات النظرة الجيوفيزيائية المحدودة في معظم الكتابات الأكاديمية عن التأثيرات المناخية في مصر. و فيما يتم تطوير خطط التكيف و ضخ الأموال في المشاريع الهندسية الكبيرة، ينبغي أن نسأل مصالح من هي تلك التي يتم الدفاع عنها و من هم المستفيدون حقاَ؟ كيف سيتم السيطرة على توزيع المياه و الأراضي في سياق ازدياد الاحتباس الحراري العالمي؟

سيقود تغير المناخ التحولات الأكثر عمقاً في الذاكرة الحية في مصر، و ربما في ذاكرة الجيل القادم أيضاً. إذا حصرت معركة تحديد التكيف في مصر بين القوات العسكرية و قوي النيو- ليبرالية، فستكون الخسارة حتماً من نصيب بقية السكان. لكنه يمكن وقف الاندفاع المتهور لغلق مجتمعاتنا للاعتماد على الوقود الأحفوري فقط، فهناك قضية وجيهة للاعتقاد بأن التكيف العادل شيئ ممكن حدوثه. و على الرغم من القوة المتصاعدة للجيوش و القوى المناهضة للثورات و الفلول في الوقت الراهن، فقد أظهرت الثورات العربية أن التصدعات ممكنة الحدوث.

الحركات الاجتماعية المصرية التي تناضل من أجل إعادة التوزيع و التعاون و العدالة قادرة على خلق استراتيجيات تحولية للتعامل مع تغير المناخ. هذا المستقبل البديل لن يتم ابتداعه في أبراج النايل سيتي و المؤتمرات العالمية التي تعقد برعاية البنك الدولي أو في القمم التي تعقدها الأمم المتحدة. الخطابات  الأصلية للتكيف العادل يمكن أن تصدر من الملايين من الناس الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة و القرى الصغيرة، حيث علاقات و قضايا السلطة هي مسائل عميقة و يستحيل تجاهلها. مساحات مثل المجالس الشعبية التي ملأت شوارع إدكو و هي تناقش مستقبلا للطاقة لا توجد فيه بريتيش بتروليوم.

مجموعات شعبية في أجزاء أخرى من العالم هي أيضا تعمل علي بناء حلول: ففي عام 2013، أثبتت لجان الاستجابة للإعصار في الأحياء التابعة لجمعية سلفادور المانجروف فعالية أكثر من خطط إخلاء حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. و في نفس السنة، انضمت جمعية متقاعدي لندن الكبرى لنشطاء المناخ في المطالبة بمنازل دافئة و معارضة البنية التحتية الجديدة للغاز. و يعمل أعضاء الاتحاد الوطني لعمال المعادن في جنوب أفريقيا بثبات على تأسيس شبكات دولية للعمال تدعو الى الانتقال العادل.

هذا هو المكان الذي يجب أن نبحث فيه عن سبل البقاء لمصر. التكيف بطريقة ديمقراطية وعادلة سيكون صعباً جدّا. سيكون هناك رد فعل معاكس مكثف و عنيف من الشركات التجارية الكبرى و من الجيش، و كل سيحاول فرض رؤيته لمستقبل مدفوع بالربح و بالاستغلال. و لكنه البديل الوحيد الممكن بدلاً من الدمار.

قائمة المراجع

كيفن اندرسون وأليس بوز، نموذج جديد لتغير المناخ (تغير مناخ الطبيعة، 2012).

راي بوش والفقر والنيو- ليبرالية: الاستمرار والاستنساخ في جنوب الكرة الأرضية (لندن، المملكة المتحدة: مطبعة بلوتو، 2007).

بلقيس عثمان العشا، رسم خارطة تهديدات تغيّر المناخ وتأثيرات التنمية الإنسانية في البلدان العربية، (تقرير التنمية البشرية العربية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2010).

جيمس إي هانسن وماكيكو ساتو، “آثار المناخ القديم على الإنسان – تغير المناخ المصنوع،” تغير المناخ في مطلع العقد الثاني من القرن:استدلالات من المناخ القديم والجوانب الإقليمية: وقائع ندوة الذكرى المائة والثلاثين لميلوتين ميلانكوفيتش، (سبرينغر 2011 ).

نعومي كلاين، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، (نيويورك، NY: بيكدور 2008).

أندرياس مالم وشورى اسماليان، “طرد مضاعف بسبب التراكم: مجتمعات الصيد المصرية بين البحيرات المغلقة وارتفاع البحر،” استعراض للاقتصاد السياسي الأفريقي 39، لا.133 (2012)، 408-426.

أندرياس مالمو وشورا اسماليان، “طرق الدخول والخروج من التعرض لتغير المناخ: التخلي عن مشروع مبارك في دلتا شمال النيل، مصر،” انتيبود 45، لا.2 (2012)، 474-492.

أندرياس مالم، “سياسة حائط البحر: حماية مركبة غير متكافئة لساحل دلتا النيل في مواجهة ارتفاع مستوى سطح البحر،” مجلة علم الاجتماع النقدي   39، عدد.6، (2012)، 803-832.

تيموثي ميتشل، حكم الخبراء، (بيركلي، كاليفورنيا: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2002).

تيموثي ميتشل، استعمار مصر، (بيركلي، كاليفورنيا: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1991).

جون واتربوري، الاقتصاد السياسي لتغير المناخ في المنطقة العربية ، (تقرير التنمية البشرية العربية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2013)،

البنك الدولي، تقرير التنمية في العالم لعام 2010: التنمية وتغير المناخ، (واشنطن دي سي، 2010).

البنك الدولي، تحقيق الاستفادة المثلى من شح المياه: المساءلة من أجل تحسين نتائج إدارة شؤون المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقياK (واشنطن دي سي 2007).

دورتي فيرنر، التكيف مع أثار تغير المناخ في المنطة العربية: حالة لحوكمة التكيف والقيادة في بناء صمود المناخ، (واشنطن دي سي: البنك الدولي، 2012).

Focus Areas Places Players Issues

PLATFORM BRINGS workers AND communities TOGETHER TO CREATE NEW, LIBERATORY SYSTEMS THAT TACKLE INJUSTICE AND CLIMATE BREAKDOWN.